الجمعة، 27 يونيو 2014

عندما تصبح الأوطان مجرد ورش


 

عندما تصبح الأوطان مجرد ورش

19/5/2004

خالد بن سلمان الخاطر

يبدو أن أوطاننا العربية قد تحولت الي ورش عمل. وليس القصد هنا أنها تحولت الي مراكز من الحركة في النشاط العمراني أو الصناعي، هدفها انجاز مشاريع محددة كما يفترض من الورش عادة، بل المقصود ان مفهوم الوطن قد تحول الي ما يشبه مفهوم الورشة والمواطنون مثل سواهم من المقيمين مجرد عمال فيها، وخصوصا الحاكم الذي يحكم الوطن، بغض النظر عن لقبه، الذي اصبح يتعامل مع الوطن وكأنه ورشته الخاصة، وأن مواطني ذلك الوطن لا يتعدون كونهم موظفين لديه في الورشة، فمن شاء فليبقي ومن شاء فليترك. بل إن ذلك الخيار قد يحرم قطعيا عكس ما هو مفترض عادة في الأوطان او الورش، فخيار من يعارض سلميا او حتي يبدي رأيا مخالفا هو السجن والتعذيب وربما الموت. ومن يمن عليهم صاحب الورشة بمراكز قيادية لإدارة الورشة يجب ان يتميزوا بقصر النظر والطاعة العمياء والطمع والجشع، وذلك لأنها خواص تساعد صاحب الورشة في تحقيق أهداف ورشته التي تكون في الغالب مربوطة بمصالحه الشخصية، آنية الزمن محدودة البعد ضحلة العمق. وصفة الطمع والجشع، وعدم تعارض المباديء وموت الضمير لدي من يختارهم، صفة هامة بالنسبة له حيث تمكنه من السيطرة التامة عليهم، مدركا ان مبدأهم الوحيد بل وحياتهم مرهونة فقط بالكسب المادي والاحساس بالقوة والتسلط.

 

ولم يقتصر التحول في مفهوم الوطن الي ورشة عمل عند الحاكم فقط، بل قبل المواطنون بذلك المفهوم لدرجة ان مفهوم الوطنية لديهم اصبح الورشية . فأصبحت الغالبية العظمي من المواطنين تتعامل مع الوطن وكأنه ورشة عمل مؤقتة لا هدف لها من العمل فيها سوي الكسب المادي. كما أصبحت تتعامل مع بقية مواطنيها علي انهم مجرد عمال آخرين لا يربطهم معا سوي ذلك الهدف المادي، ولا تجمعهم اية اهداف اخري كتلك التي عادة ما تربط افراد اي وطن من علاقات اجتماعية وروابط تاريخية ومباديء اخلاقية كالعدالة والمساواة بين افراد الوطن ومساعدة المحتاجين منهم. كما تنعدم لديهم روح العمل علي رفعة وعزة الوطن لأنهم اصيبوا بداء الورشية وافتقدوا صحة الوطنية.

 

مما تقدم نستطيع استخلاص الأسباب التي ادت الي عدم تقدم اي وطن من اوطاننا العربية وعدم تحقيق اي منها تنمية حقيقية بالرغم من حصول بعضها علي العديد من الفرص لتحقيق ما تهدف له الأوطان عندما تفهم علي انها أوطان لا مجرد ورش. وبعبارة اخري اصبحت التنمية تنمية للضياع وضاعت فرص التنمية كما ذكر د. علي خليفة الكواري في كتابه تنمية للضياع أم ضياع فرص التنمية .

 

كما نستطيع ان نفهم لماذا لم تشرق شمس الديمقراطية في أي وطن عربي حتي يومنا هذا، فالورش لا تحتاج الي الديمقراطية كونها لا تتمشي مع أسلوب عملها وطبيعتها، علما بأن الدول الديمقراطية بدأت في تطبيق الديمقراطية حتي في ورش العمل وأصبحت تتحدث عن ديمقراطية الديمقراطية. أي ادخال الديمقراطية في كل النشاطات والعلاقات، من العلاقة العائلية الي أكبر النشاطات الصناعية بما فيها ورش العمل. كما نستطيع ان نفهم اسباب تهميش دور المرأة وعدم اعطائها حقوقها. فالورش لا تحتاج للمرأة إلا ما ندر.

 

كما نستطيع ان نفهم سبب غياب المؤسسات الهامة والضرورية لقيام اي وطن. فالورش لا تحتاج الي مؤسسات ترتكز عليها كونها لا تهدف إلا تحقيق اهداف استراتيجية شمولية، ولكون هدفها ان وجد مقتصر علي صاحبها. وقد يحاول صاحب الورشة تصوير بعض أقسام ورشته علي انها مؤسسات مستقلة وقد ينجح في اقناع عمال الورشة المواطنين وذلك عن طريق اعطائها صبغة شرعية مستمدة في الغالب من منته هو وحده، مستغلا اعلامه في تجريعها عماله بكل الطرق الحديثة التي لم يفلح ابدا إلا في استغلالها سلبيا. كما يرجع لنفس الأسباب غياب جمعيات المجتمع المدني، لأن تلك الجمعيات تتطلب وجود مجتمع مدني وليس مجرد مجموعة من العمال كما هو الحال في الورش. كما يفترض ان الأوطان وجدت لتخدم شعوبها ولكن وضعنا الحالي يبدو مثل الوضع في الورش حيث يوجد العمال لخدمتها.

 

كما نستطيع ان نفهم لماذا لا توجد مواطنة حقيقية ولا تحترم حتي بعض من حقوقها. ونستطيع ان نفهم لماذا تحولت النشاطات الحيوية لأي وطن مثل التعليم والصحة وغيرها، في التطبيق علي الأقل، الي نفس النشاطات التي ترافق ورش العمل الكبيرة. فالتعليم اصبح تعليم بماذا تفكر لا كيف تفكر، اي تدريب وليس تعليم. والصحة اصبحت تضميد جراح وليس وقاية وعلاجا. وأصبح استغلال ثروات الوطن وخيراته مثل استغلال موارد ومقدرات الورش، لحظي وآني، يجب استهلاكها بأسرع وأقل وقت ممكن، لا يؤخذ في ذلك اي اعتبار للأجيال القادمة أو أزمات المستقبل. فالورش لا تعمل حسابا، ذلك لأنه ليس لديها اجيال قادمة او تتوقع الاستمرار او تهدف اليه.

 

وقد يبدو الوطن عندما يتخذ صفة الورشة علي انه وطن سليم يمشي في تحقيق اهدافه علي خطط مدروسة، وقد يحقق بعض الانجازات التي يحاول الحاكم عن طريق اعلامه تصويرها بأنها أعمال للحاضر والمستقبل، يتباهي بها علي انها مكارم من قبله لا حق للمواطنين فيها، تطبل وتزمر له نخبته المختارة ويترنم مع ألحانهم أمثالهم من اصحاب النفوس الدنيئة. تماما كما هو الحال في ورش العمل. فكل شيء يمن به صاحب الورشة علي عمالها هو فضل ومكرمة وليس حقا مكتسبا.

 

لذا نستطيع ان نفهم عدم جدوي المشاريع المطروحة والتي لا تهدف في العادة الي تحقيق تنمية مستدامة، بل لتحقيق اهداف قد تبدو لأول وهلة علي انها لمصلحة الوطن ولكنها غايتها في الحقيقة تحقيق مكاسب سريعة لصاحب الورشة ومن اختارهم لادارتها الفورمنية .

 

ولا تقتصر تلك النتائج السيئة التي تحدث عندما تتحول الأوطان الي ورش فقط علي العلاقة السلبية بين صاحب الورشة والعاملين فيها المواطنين بل تتعداها لتشمل العلاقة بين العمال المواطنين بعضهم ببعض. فوجودهم في الورشة يصبح مرهونا فقط بمصالحهم المادية وكسب ارزاقهم اليومية، غير متخذين او مراعين أية اعتبارات او مصالح اخري خاصة الطويل الأمد منها. فتنعدم الأخوة والتماسك الاجتماعي وتفتقد العدالة والمساواة وحتي المطالبة بهما، ويصبح تأدية الواجب مرهونا بالمصلحة الشخصية والرشوة، وينتشر الفساد وتنعدم الانتاجية المثمرة ويحل بدلا منها العمل التمثيلي الذي يختلق الروتين القاتل لمجرد التحكم في مصير عمال الورشة.

 

وقد تبدو الورشة الوطن علي انها طبيعية، تسير بخطي ثابتة نحو التقدم والنمو والازدهار، وقد يغتنم صاحب الورشة ومن حوله بذلك وخاصة امام العالم الخارجي، مصورا استبداده علي انه عدالة، متخذا تخلف عماله، الذي يكاد هو وحده ان يكون السبب فيه، عذرا لمن يسأل كسبب في عدم اعطائه عماله حقوقهم كاملة وانما علي جرعات كما يدعي. ويتمادي في كذبه وخداعه لعماله ويزول لديه الخجل والحياء بعد فترة، ويتمادي في تصرفاته لدرجة تصديق نفسه، ويؤمن بأن كل ما يفعله ويقوم به يصبح مصدقا من قبل عماله كما يصدقه هو، ويتخيل اليه انه لو مشي عاريا بينهم وقال لهم انه يرتدي اجمل حلله لآمنوا بذلك وانه لن يوجد بينهم طفل واحد يجرؤ علي قول إني أري الملك عاريا .

 

وينعكس ذلك علي عمال الورشة المواطنين ويتوهموا بأن الورشة هي وطن حقيقي، ترتبط فيه امالهم وامنياتهم ومصائرهم، حاضرهم ومستقبلهم، غير مدركين زيف ما هم فيه، غير قادرين علي تفسير اكتئابهم وعللهم الأخري، عاجزين عن وجود الأسباب الحقيقية وراء تخلفهم وتراجعهم عن بقية الأوطان الحقيقية. والأمر من ذلك تمسكهم العاطفي لدرجة التضحية بما زيفه لهم صاحب الورشة من أوهام وشعارات، وتخليهم عن كل ما تثبته الحقيقة ويعكسه الواقع. وبالتالي يصبحون كالدمي، يلعب بهم صاحب الورشة ويسيرهم، بل ويتسلي بهم بأتفه الأمور.

 

وفي الورش تتحول النقمة والاحتجاج لدي العمال الي ظاهرة صوتية، محدودة المكان والزمان، لا تتعدي جدران مقر سكنهم ولا تدوم اكثر من لحظات يشعرون خلالها بالتنفس ولو كان مصطنعا. وفي الورش يحتل المتحدثون من العمال، طليقو اللسان، دور المثقفين في الأوطان. فمنهم من يستغل ثقافته لإثبات وجوده، ومنهم من يستغلها في نفاق صاحب الورشة بالمديح والثناء هادفا تحقيق مصلحته الشخصية غير مكترث بمصلحة بقية اخوته من العمال. وقلة منهم تكون صادقة تحاول مجتهدة ان توقظ رفاقهم من نومهم وأحلامهم، التي يعتقدون هم وحدهم انها كوابيس مزعجة، معانين الخوف من بطش صاحب الورشة، أو من اليأس أحيانا لما يواجه محاولاتهم من إهمال وعدم اكتراث بما يرونه هاما وحيويا، بل ومصيريا لهم ولاخوتهم من العمال.

 

في الورشة عكس الوطن، يفتقد الجدل الفلسفي، وتنسي عبر التاريخ، وتصبح السياسة مجرد نميمة تتناقلها الأفواه لمجرد التسلية واضاعة الوقت، ويصبح الاقتصاد مجرد محاسبة لا هدف له سوي تقدير التكاليف من دون اي مراعاة للقيم، وتحل العواطف محل العقلانية، وتصبح الغوغائية طابعا للنقاش، وينعدم التأمل والابداع، وتصبح الحياة روتينية لدرجة قاتلة، وينتشر الضجر والملل، وتصبح التفاهات مهمة والأمور الهامة تفاهات. ويحل السخف والهزل مكان الجد والعمل. ويكثر في الورشة البحث عن المبررات وتكثر الشماعات وتعلق عليها كل مصائب الورشة وأسباب تخلفها. كما ينحصر الهدف من التعليم الي مجرد الحصول علي شهادة وبالتالي وظيفة أعلي في سلم العمالة. وتنحصر المكانة الاجتماعية علي القدرة المالية ويصبح الجاه منعكسا في مظهر العامل في الورشة من لبس وسيارة ومسكن. وتمتحي العادات والتقاليد الحميدة ويحل مكانها النفاق، ويصبح التحايل شطارة والنصب فهلوة والمظهر جوهر، وتستبدل الغاية بالوسيلة، وتقلب المفاهيم وتعكس القيم وتستحدث السخافات التي تستهدف المظهر لتصبح سلوكا وحضارة، ويصبح التباهي امرا معتادا، والغيرة والحسد سلوكا مقبولا لا بد منه.

 

لا يوجد شك في ان مقارنة الأوطان بالورش يشوبه بعض الالتباس ويمكن القول التناقض، حيث ان الورش تمتلك خاصية انجاز اهدافها علي الأقل وتكون ناجحة عادة في تحقيق ما أوكل إليها من مهام. كما أن للورش عادة عمرا محدودا ينتهي بمجرد انجاز مهمتها، خلاف الوطن الذي يفترض انه دائم ومستمر. ولكن التشابه في المفهوم بينها وبين ما حققته أوطاننا العربية وما هو عليه حال تلك الأوطان حاليا واضح وبين ولا يدعو للشك والريبة لأن شيئا لم يتحقق، وكل ما تحقق يبدو مرتبطا بمصالح اصحاب الورش لا أكثر ولا أقل.

 

فمتي ندرك، حكاما وشعوبا اننا نقطن ورشا لا أوطانا؟ ومتي نستيقظ من سباتنا وأحلامنا وندرك ان السبب وراء عدم تمكننا من اللحاق بمسيرة التقدم والنمو والحضارة التي تعيشها الأوطان الأخري هو فقداننا للأوطان ووجودنا في الورش؟

 

إن زمام الأمور ما زال في أيدينا، والوقت ولو أن ما تبقي منه قليل، ما زال كافيا لنتدارك أوضاعنا وإصلاح أمورنا، والمطلوب هو ان نبدأ فمتي يا تري؟ لقد بدأ الأجنبي الغريب يفرض ويملي علينا ما يعتقد هو وحده أنه في صالحنا، ليس محبة فينا بل خوفا عن ما انتجته وما تنتجه حالة الورش التي نعيش فيها من شر مس بهم في عقر دارهم ولو انهم كانوا جزءا لا يتجزأ من أسبابه. والأجنبي يتعامل مع الأمور حسب ما يفهمها ويراها والذي علي ما يبدو انه بعيد عن فهمها بشكل صحيح وعاجز عن رؤية حقيقتها. كما انه ايضا ينظر اليها كورش لا كأوطان، لقد نادي المنادي فهل من مستيقظ؟.


 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق